الصراع السياسي الشيعي التصعيد وأزمة الثقة

يمر البيت السياسي الشيعي والعملية السياسية في العراق بمنعطف سياسي ستتغير على إثره أوزان القوى السياسية الموجودة منذ 2003، وقد يتصاعد بسببه العنف وصولاً الى اقتتال مسلح، ابتدأ التصعيد منذ احتجاجات تشرين ومحاولات الصدر المتعددة باستغلال الفرص لدفع تياره سياسياً الى مركزية البيت السياسي الشيعي عبر وسائل عدة ابتدأت بالمشاركة بالاحتجاجات وانتهت بتغيير الوضع الانتخابي لصالحه وفوزه ككتلة أكبر في البرلمان ومن ثم استقالة كتلته بعد صدامه مع القوى المقربة من طهران والمعروفة بـ “الإطار التنسيقي” التي قطعت طريق الصدر نحو حكومة أغلبية، مما دفع الصدر لاتباع نهج مختلف في تصفية حساباته مع “الإطار”.
في المقابل فإن “الإطار التنسيقي” الذي يحرص على الظهور بمظهر التماسك والقوة فإنه يعكس من خلال سلوكه السياسي طبيعة التشتت من الداخل، بسبب تباين طبيعة تشكيله من قيادات الأحزاب الشيعية التي تمتلك أجنحة عسكرية وتتمتع بدعم إقليمي وديني عالي، ويسعى كل شخص منهم للزعامة، خاصة وأن أصل الخلاف مع الصدر هو “الزعامة” للبيت الشيعي، حتى تمايز اليوم “الإطار التنسيقي” الى جزئين رئيسين وبعض الاتجاهات التي بمجموعها تربك وحدة الموقف لدى “الإطار التنسيقي”.
حيث انقسم إلى قوى تمتلك أجنحة عسكرية وأخرى لا تمتلكها، ثم انقسم مرة أخرى بين مؤيد ومعارض للطروحات السياسية التي تفضي لصناعة زعامة شيعية، حيث أن الانقسام الحقيقي والمشكلة الرئيسة في الأزمة السياسية الحالية هي الزعامة الشيعية، التي كان وما زال يسعى لها مقتدى الصدر ولكنه وصل الى طريق مسدود فقرر الانسحاب ليوقع بمن يتزعم بعده عبر تأليب الشارع الشيعي والعراقي عليه بمظاهرات قد تصل الى الاقتتال الداخلي.
لاسيما مع وجود الغريم التقليدي الذي يتربص به الصدر “نوري المالكي”، ويحاول تفكيك “الإطار التنسيقي” من خلاله، وبالفعل وجه الصدر عدة ضربات “للإطار التنسيقي” تتمحور جميعها -من حيث الظاهر- بضرورة عزل المالكي سياسياً إلا أن تمسك قوى الإطار به زاد من نقم الصدر، مما دفعه للتصعيد الذي كان آخره على أثر التسريبات الصوتية لإحدى الجلسات الخاصة التي يتحدث فيها المالكي مهاجماً الصدر ومهدداً إياه بالقتل من جهة، وإهانته للقوات الأمنية والحشد ورغبته في إيجاد غطاء قانوني لتشكيل مسلح خاص به، التسريبات التي أدعى المالكي أنها مفبركة، أخذها الصدر على محمل الجد وطالب القوى السياسية والاجتماعية المتحالفة معه بالإستنكار، وإلا فإنها شريكة معه في ما ورد في التسجيلات مع دعوة الصدر للمالكي بتسليم نفسه للقضاء.
ينذر الوضع باحتمالية تفجر الأوضاع وانحسار خيارات التوصل لتفاهم عبر الحوار أو التفاوض، اذ أن التصريحات الأخيرة والتي تبادل فيها الطرفان الشيعيان أشد أنواع الاتهام والوعيد، وتلويح الأتباع باستعدادهم لجميع السيناريوهات المحتملة بضمنها الصدام المسلح .
وعلى الرغم من ترقب الكرد والسنة ومحاولة النأي بنفسهم الموقف الشيعي، إلا أن الإطار حتى وقت قريب، كان مصراً على اقحامهم كطرف أساسي واتهامهم بالدفع باتجاه فتنة تستهدف الشيعة.
الزعامة الشيعية
التيار الصدري
على طول مؤشر تنامي قوة التيار الصدري، كان مقتدى الصدر يهيئ عبر تياره الشعبي بالسلاح “جيش المهدي، سرايا السلام” وبغيره للوصول لزعامة الشيعة، إلا أن صعوبة تحوله كزعيم ديني ترتبط بوجود المرجعية الشيعية العليا “السيستاني” بالضد منه، دفعه ذلك للتحول نحو السياسة واستطاع أن يحرز المقاعد النيابية الأكبر، واستطاع التغلغل في الدولة “مدراء عامون، وكلاء وزارات، رؤساء هيئات، محافظین، قضاة” وغيرها من تشكيلات إدارة الدولة العميقة، يحركه في كل ذلك قناعته بأنه الوريث الشرعي لزعامة الشيعة بالعراق، نظراً لمكانة عمه الذي أسس لنشر التشيع وأعدم بسبب ذلك، ووالده وإخوانه الذين تم اغتيالهم، فضلاً عن وجود أكبر تيار شعبي شيعي تابع له “التيار الصدري”، لكنه في النهاية وصل الى طريق مسدود أيضا حيث بقي الفيتو الإيراني من المرشد الأعلى يلاحقه ويقوض من إمكانية تزعمه للشيعة في العراق.
الإطار التنسيقي
حاول “الإطار طيلة الفترة السابقة أن يبدو بمنظر الكتلة الواحدة، إلا أنه في الواقع يتمايز اليوم الى أكثر من توجه برؤى مختلفة حول الطرف الذي سيتزعم الساحة الشيعية العراقية، وهما توجهان رئيسيان:
1. المضي دون الصدر
يرى هذا القسم من قادة الإطار التنسيقي الشيعي بأن يبادر الإطار بتشكيل الحكومة على وجه السرعة وأن تكون حكومة قوية قادرة على الضرب بيد من حديد لكل من يقف بوجهها، في إشارة للصدر وأتباعه، وهذا التوجه يتزعمه المالكي الذي يعرب عن استعداده للذهاب الى خيار التصادم مع مقتدى وتياره والمضي بتشكيل الحكومة، وعدم إشراك الصدر بها واستخدام قوة الدولة واللادولة -من خلفه- في ردع كل من يسعى لخلق الفوضى ضده باعتبارهم تهديد – بحسب ما يعتقده- يسعى الى تهشيم الشيعة ودولتهم في العراق. مستحضراً سيناريو “صولة الفرسان” في عام 2008 التي قادها المالكي ضد التيار الصدري، الذي يعتبره المالكي دليلاً كافياً على قدرته لإعادة الكرة في قتل أتباع الصدر وابداعهم السجون ومحاكمتهم.
2 . الاحتواء
يرى القسم الثاني من قادة الإطار التنسيقي بوجوب اتباع سياسة الاحتواء للجميع وان يؤخذ برأي الصدر بل وإشراك تياره في التشكيلة الوزارية وكذلك في إدارة الدولة بشكل عام ولكن وفق مبدأ التوافق والثقل السياسي للمكون الشيعي لا على حساب المكون الشيعي وهذا ما يتبناه كل من “هادي العامري. حيدر العبادي، عمار الحكيم”.
فهم يخشون أن يتم اقصاءهم سياسياً بعد نقصان عدد مقاعدهم واختزال الوجود الشيعي السياسي بالصدر وحده، وبالتالي خسارة المكتسبات من المناصب والمشاريع التي أصبحت عامل تمويل رئيسي لهم سياسياً.
ويبدو أن الإطار قد حسم توجهه بالذهاب نحو تشكيل الحكومة وترك الباب مفتوحاً للصدر تجنباً بأمل أن تكون هناك استجابة، رغم تصاعد الخلافات وحسم الصدر لقراره بهذا الاتجاه الذي تمثلت صلابته باستقالة كتلته من البرلمان، وبحسب تصريحات المالكي الأخيرة فإن الإطار سيمضي بترشيح شخصية من الخط الثاني مع التزام قادة الإطار بوضع البرنامج السياسي وحمايته، ولكنه لم يستبعد إعادة ترشيحه وهو الأمر الذي قد يفجر الوضع من جديد وينقله الى مستوى جديد من الصراع، كون عزل المالكي سياسياً هو نقطة تركيز الصدر.
التسريبات الصوتية وأزمة الثقة
بعد تسريب التسجيلات الصوتية للمالكي، وتعامل الصدر معها على أنها حقيقية كانت ردة فعل الصدر عنيفة تجاه المالكي والإطار بشكل عام، إذ اتهمه بالإرهاب وطالب بالتبرؤ منه وتسليمه للقضاء، واضعاً الإطار في حرج شديد مفاده أن أي حراك سياسي للمالكي ومن يتحالف معه سيكون موضعاً للاستهداف وفي مرمى التيار ابتداءاً بالحكومة التي ستتشكل وانتهاءاً بالطبقة السياسية التي ستقبل بهذا الوضع، وهو ما وضع الإطار التنسيقي تحت مع حدة الانقسام في داخل الإطار واختلاف الرؤي بالتعامل مع الأزمة. إلا أن التسريبات الأخيرة التي أظهرت أن المالكي لا يعول على القوى المسلحة التي تتحالف معه سياسياً، عمق من أزمة الثقة بين أطراف الإطار .
يمكن القول بأن جميع مكونات الإطار التنسيقي فاقدة للثقة ببعضها البعض، ويخشى كل توجه فيهم من انسحاب التوجه الآخر بعد استفزاز الصدر. أو الذهاب لتعزيز دكتاتورية أخرى أشد من دكتاتورية الصدر، متمثلة بالمالكي. أما سياسياً فإن الإطار يعاني من فقدان المبادرة السياسية، بعكس الصدر، الذي يوجه الضربات المفاجئة باستمرار يقابلها ردود أفعال ارتجالية، تعكس طبيعة الإرباك الداخلي للإطار.
يبدو الصدر جاداً في إنهاء “الإطار التنسيقي” تمهيداً للمرحلة القادمة. وبالأخص المالكي ومعه غرماء الصدر الآخرين مثل الخزعلي وكل من تمسكوا بهم، ويتضح ذلك في سياق استقالته من البرلمان مع بقائه في المشهد السياسي مهدداً وملوحاً، وبالتالي يسعى للإعداد لمرحلة يكون فيها هو المركز السياسي الشيعي والذي ابتدأ الإعداد له من خلال إسقاط خصومه من داخل البيت الشيعي.
وبالتالي فإن الصدر هذه المرة يطمح لما هو أبعد من تشكيل الحكومة أو اختيار الوزراء وإنما يضع نصب عينيه “الزعامة الشيعية”، وهذا ما لن يقبله الإطار خشية الإقصاء، فهم ليسوا عاجزين عن اختيار ذوات تعتلي كرسي الحكم بقدر عجزهم عن القبول بزعامة المكون الشيعي.
بين طموح الصدر وإصرار المالكي واحتقان الأطراف الشيعية المسلحة بعد سنين من صراع الموارد الذي بدأ يتجه للصدام على النفوذ وسعي البقاء بالسلطة بأي ثمن، بات الشارع الشيعي متشنجاً متأثراً بالاحتقان السياسي بين القوى الشيعية البارزة، وهو ما يعتبره مراقبون مؤشراً على اقتتال شيعي شيعي قادم تثبته المواقف السياسية التي يستجيب لها الشارع السياسي بمرور الأيام، وما يدعمه من معلومات من مصدر خاص بالمركز، بتعميم وكالة الـ USAID قراراً بإنهاء جميع نشاطات وعقود الوكالة في العراق قبل حلول شهر اكتوبر/تشرين الأول والابتعاد عن المناطق القريبة من مقرات الحشد الشعبي.
حسابات الكرد
لا تختلف المشكلة الكردية كثيراً عن المشكلة الشيعية وان اختلفت الأوزان، حيث إن الحزب الديمقراطي الكردستاني “بارتي” في أربيل بزعامة “مسعود البارزاني” قد بعث برسالة تختلف عن سابقاتها إلى قادة “الإطار التنسيقي”، بأن حزب “البارتي” الذي كان شريكاً وداعماً لمشروع الأغلبية الذي تبناه الصدر، غير مطمئن لتشكيل حكومة من قبل الإطار التنسيقي ما لم يتم تقديم ضمانات لإيقاف الهجمات الصاروخية التي تهدد أمن كردستان، خاصة وأن کردستان تحمل الجهات المقربة من طهران مسؤولية هذه الاعتداءات، فضلاً عن الهجوم السياسي الذي مارسه قادة الإطار ونوابه تجاه الكرد والسنة في الفترة السابقة باتهامهم بالسعي لتمزيق المكون الشيعي والتطبيع مع الكيان الصهيوني، كل ذلك دفع الكرد في أربيل الى الابتعاد عن مشهد تشكيل حكومة توافقية الذي تبناه الإطار، وانتظار تطورات الموقف الشيعي الذي يشهد تصعيداً حاداً على إثر التسريبات الأخيرة المنسوبة للمالكي.
لم يكن الكرد بمنأى عن الجهات التي هاجمها المالكي في التسريب الذي تسب إليه، وبالرغم من أن السلوك السياسي المسبق ليس بعيداً عن محتوى التسريبات التي نسبت له، الا أنها هذه المرة تدين المالكي بالدليل، وهو ما استند إليه الصدر في هجومه ولكن الكرد وخاصة في أربيل يدركون أهمية التوقيت في العمل السياسي لذا سيتفاعلون وفقاً للوضع الذي سيمنحهم مكاسب أكبر دون التدخل بالصراع المتصاعد بين الأطراف الشيعية، على الأقل حتى الآن.
خاصة وأن أربيل وبعد فوزها بفارق بعدد مقاعد البرلمان عن منافسها في السليمانية، مصرة أحقيتها بترشيح رئيس الجمهورية بدون التوافق مع “الاتحاد الوطني الكردستاني”، وهو الأمر الذي دفع لتعطل التصويت على رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة بالنتيجة.
بالمقابل، التزم الكرد في السليمانية “الاتحاد الوطني الكردستاني” او “اليكتي” بزعامة “بافل طالباني”، وبعد فشل التوافق مع “البارتي” على مرشح لرئاسة الجمهورية، بدعم القوى المقربة من طهران “الاطار التنسيقي” وتشكيل الحكومة التوافقية، الأمر الذي منح الإطار القدرة على تعطيل الجلسات والنجاح في دفع “البارتي” وشركائه من حيازة المنصب.
السنة بين الإطار والتيار
كما الكرد، يترقب السنة تطورات الوضع السياسي في البيت الشيعي، وبالرغم من اتهام قادة “الإطار” للسنة بالمساهمة في تفتيت البيت الشيعي وتهديد الوضع الداخلي للمكون، بعد تحالفهم مع الصدر لتشكيل الأغلبية، ويتمثل السنة في أحد الأطراف -وهو الأكثر عدداً- بتحالف السيادة الذي يتزعمه خميس الخنجر ومحمد الحلبوسي، الذين قررا دعم مشروع الأغلبية الذي استفز المقربين من طهران، لدرجة وصف المالكي لهم بحسب التسريبات المنسوبة له، بالحقد “الا القلة القليلة” مشيراً إلى تحالف “العزم” الداعم الإطار التنسيقي.
ويتهمون رئيس مجلس النواب “محمد الحلبوسي” باستغلال الصدر للوصول للمنصب، وتوعد بعضهم الحلبوسي بالاقالة فور الانتهاء من تشكيل الحكومة، وهو ما دفع الحلبوسي لمحاولة إعادة الحسابات بعد انسحاب شريكه مقتدى الصدر والذهاب للتفاوض مع “الإطار التنسيقي حول المشاركة في جلسة اختيار رئيس الوزراء، في مقابل موقف عدائي من “الإطار”.
وفي جانب الإطار، يوجد تحالف “العزم” الذي يتزعمه مثنى السامرائي بعد انشقاق بالاضافة الى مجموعة من النواب وعددهم 17 نائباً، ومن المحتمل التحاق عدد من النواب بهم في حال المضي بتشكيل الحكومة للالتحاق بالاطار وتحصيل مكاسبهم وحصة من المناصب في حال استأثر الحلبوسي والخنجر بها دونهم.
مآلات المشهد:
الصدر السيناريو الأول: استمرار الإطار بتشكيل الحكومة، رغم ترقب الصدر، ولكن اختيار مرشح من الخط الثاني ممن يمتلك علاقة جيدة مع وهو الأمر الذي يرفع من حظوظ بعض المرشحين مثل قاسم الاعرجي ومحمد شياع السوداني، وهي المناورة التي يرجو الإطار” تلافي الصدام مع الصدر من خلالها، ومع ذلك فإنها ليست كافية بالضرورة لإسكات الصدر، والذي سيذهب بكل الأحوال للتمسك بتوجيه الضربات “للإطار التنسيقي” مركزاً على المالكي خاصة بعد تهديدات الأخير له في التسريبات الصوتية، والتي قد يلجأ المالكي للقضاء لتبرئة نفسه من خلال نفوذه في الجهاز القضائي، والبت بزيف التسريبات الصوتية، وهو ما سيدفعه للذهاب نحو الأمام في تشكيل الحكومة ومواجهة الصدر من خلالها.
السيناريو الثاني: تعطيل تشكيل الحكومة، والإبقاء على الكاظمي وحكومة تصريف الأعمال وهو ما يصب في مصلحة الصدر خاصة وأنه الراعي السياسي للكاظمي في وجه القوى الأخرى، والذهاب لإقامة انتخابات مبكرة وهو السيناريو الذي يخدم تطلعات الصدر الذي يسعى لكسب قبول شعبي أكبر عبر تبنيه معارضة الطبقة السياسية من خلال احتجاجات تياره وسحب كتلته من البرلمان.
السيناريو الثالث: ترشيح المالكي، وهو ما سيجعل خيار العنف أقرب من أي خيار آخر، الذي سيبدأ باحتجاجات يدعوا لها الصدر تتطور الى عنف ما لم يقبل أحد الطرفين التنازل وهو الأمر الذي لا يبدو قريباً رغم وجود وساطات تسعى للتوصل للحل بينهما، ويمكن البناء على ما حصل من اقتتال في محافظة ميسان بين التيار و عصائب أهل الحق والذي انتهى بالصلح بعد أيام من القتال وخروج المحافظة عن السيطرة الأمنية والذي خلف العشرات من القتلى والجرحى.
المصدر : icfs